كتب رياض الفرطوسي
لم يكن الحريق في “الهايبر ماركت” وسط مدينة الكوت مجرّد حادث، بل فاجعة تلسع كل ضمير لا يزال حياً في هذا الوطن. النار التي التهمت خمسة طوابق من الطمع والإهمال لم تكتف بحرق الأرواح، بل عرّت عري الوعي، وفضحت هشاشة البنية التي نتظاهر بأنها مجتمع.
امرأة تمسك بطفلها الميت بين ذراعيها، تختنق وهي تحاول توديع زوجها عبر الهاتف. تقول له “سامحني… وداعاً”، ثم ينقطع الخط. لكنه لم يكن خط الهاتف وحده، بل هو الخط الذي يفصلنا عن الإنسانية، عن الكرامة، عن الوطن. اللحظة التي يُختصر فيها الوجود بكلمة أخيرة تُقال من تحت اللهب، هي اللحظة التي يُعلن فيها موتنا جميعاً، وإن كنا لا نزال نتنفس.
نتقن الحزن، نحفظ طقوس الدموع، نفتح مجالس العزاء، نعلن الحداد لثلاثة أيام، ثم نُغلق الصفحة كما لو كانت نكتة حزينة. لكن النار لا تغلق دفاترها، الرماد يبقى، يحوم فوق رؤوسنا، يتسلل إلى صدورنا، يذكرنا بأن ما احترق ليس فقط سقف مول، بل ما تبقى من الحماية، من القانون، من العقل.
الأسلاك المهترئة، طفايات الحريق المعطوبة، سلالم الطوارئ الغائبة، ليست سوى النتائج. أما السبب فهو أننا فقدنا جوهر الإنسان: الفكر. لم نعد نربّي أطفالنا على التفكير، بل على الطاعة. لا يسألون لماذا، بل يسألون: من أمر؟ أصبحنا نخاف من السؤال أكثر من خوفنا من النار، ونخشى النقد أكثر من خوفنا من الكارثة.
في بلاد مثل اليابان، يُستورد كل شيء: النفط، الحديد، الفحم، ومع ذلك تُصدّر الحياة. في هولندا، بلد لا يملك من الأرض ما يكفي قدميه، تُبنى أعظم السدود. لماذا؟ لأن الوعي هناك هو العمود الفقري للبقاء. لأنهم يعلّمون الطفل كيف يكون مسؤولًا عن زهرة، عن درج، عن نهر. أما نحن، فنعلّمه كيف يتفادى العقوبة، كيف ينافق السلطة، كيف ينظّف باب بيته فقط حين يأتي الضيوف.
أن تتحوّل أماكن العبادة إلى مكبات نفايات، والمناسبات الدينية إلى مواسم فوضى، فذلك لا يعني أن المنظومة الادارية فاسدة فقط، بل إننا أيضاً نعيش داخل حفرة من اللاوعي. ليس لأننا فقراء، بل لأننا نرفض أن نكون أحياء. لأن الثقافة غادرت حياتنا منذ زمن، وتركنا العقل في الهامش، نُصفّق للجهل، ونتّهم المعرفة بالخيانة.
كل ما يُبنى من غير عقل، مصيره النار. وكل ما يُدار من غير فكر، مصيره الدمار. لم يُقتل الضحايا الستون في الكوت فقط لأن سبل النجاة انقطعت، بل لأن المنظومة الفنية والادارية انقطعت عن نفسها، والمجتمع انفصل عن ثقافته، والفرد نسي مسؤوليته. فساد الإدارة هو الوجه الظاهر، لكن فساد الوعي هو أصل الحكاية.
نحن نطفئ الحرائق بالبيانات، نرثي بالقصائد، ونفتح لجاناً تُقفل قبل أن تبدأ. لكننا لا نغيّر العقلية التي ترى أن كل مصيبة قضاء وقدر. لا نسأل: من منح الترخيص؟ من أغلق مخارج الطوارئ؟ من اختار المواد القابلة للاشتعال؟ من سكت عن هذه الجريمة وهي تُبنى طوبةً طوبة؟
في هذا الصيف العراقي، حيث ترتفع درجات الحرارة لتقارب الخمسين، لا يبدو أن هناك ناراً تُخيف أكثر من نار اللامبالاة. الصمت ذاته صار حارقاً. الخراب ليس في الأبنية، بل في الضمائر التي لا تُصنّف الألم جريمة، بل فقط خبراً عابراً على الشريط الإخباري.
نحن لا نتحرك إلا بعد الصدمة. ننتظر أن تأتينا المأساة كي نصحو، ثم نعود إلى النوم حالما ننتهي من دفن الضحايا. لكن إلى متى؟ كم فاجعة نحتاج كي نؤمن أن المشكلة في الرأس لا في الأسلاك؟ كم حريقاً آخر كي نصدّق أن المعرفة ليست ترفاً، بل حياة؟
الأمم لا تموت دفعة واحدة، بل تحترق رويداً رويداً، حتى يصبح الرماد هو الواقع الوحيد الذي نعرفه. إما أن نبني عقلًا جديداً، أو نظل نعدّ ضحايانا بعد كل كارثة، نكتب أسماءهم على الجدران، ثم نترك الجدار يسقط مع أول شرارة.
نحن لا نحتاج إلى مول جديد، بل إلى مولّد للمعرفة والفكر . لا نحتاج إلى مطفأة حريق، بل إلى مناهج تُشعل في الطفل شغف السؤال. لا نحتاج إلى لجان، بل إلى ضمير. والضمير لا يُزرع في الحجر، بل في الإنسان.
إما أن نطفئ هذا الرماد المتراكم منذ سنوات… أو نحترق إلى الأبد.