بقلم / حمدالله الركابي
في لحظةِ الخلود، تصبح الحياةُ مجرّدَ محطةٍ لا قيمةَ لها، حين يكون اتجاهُ المسافر نحوَ ملكوتِ السماء.يقف الحسينُ عليه السلام وسط المعركة، رغمَ حرارةِ ذلك النهار وجفافِ كلّ شيء؛ فتخضرُّ بعينيه تلك الأمنيات، وتغدو الجراحُ قطراتِ ندىً تُبلّل أغصانَ الحُلم.تشعر الشمسُ أنها بحاجةٍ إلى قِربةِ العبّاس عليه السلام، فتُقبّل يدَيْه المقطوعتين، فتنبتُ أشجارُ الإيثار على ضفافِ الوطن.
الطيورُ تبحث عن مهدِ الرضيع لتظلّله بأجنحتها، والبلابلُ تُغرّد في وجه القاسم وعليّ الأكبر، كأنها تقول لهما: ما زال الوقتُ مبكرًا على رحيلِ النجوم، فثمّةَ ليلةٌ أخرى بحاجةٍ إلى ذلك الضوءِ الهاطل من ابتسامتَيكما في وجهِ الموت.الفراتُ يطوف حول الخيام، يبحث عن وجوهِ الأطفالِ الذابلة، ليُعلن توبتَه أمام عطشِهم المتراكم، فتقف زينبُ بكلّ فصاحةِ أبيها، فتجعلُ ذلك النهرَ يموتُ ظمآناً. ثمة غيمةٌ من الدموع، تبحثُ عن جُرحٍ جديد في خاصرةِ التاريخ، لتغسلَ غبارَ الألم عن وجهِ الأيام.يَعبِسُ وجهُ معسكرِ الأعداء، فيما وجهُ (عابس) يبتسمُ رغمَ عمقِ الجراح، وينادي بصوتِ العشق:(أيّتها السهام، مزّقي آخرَ حُلمٍ يجثُم فوق أهدابِ الذكريات، فبدونِ الحسين تتحوّل أحلامُنا إلى كوابيسَ لا تهدأ، إلّا حين نستنشقُ عبقَ النحر، وهو ينزف أسرابًا من الفراشاتِ تُحلّق فوقَ حقولِ الياسمين ما بينَ الضريحَين).الزمنُ كهلٌ جدًا، ينوءُ بلحظاته خجلًا، حين مرّ على جسدِ حبيبِ بن مظاهر، وهو يُودّع قافلةَ الشهداء، فيلمحُ وجهَ مسلمِ بن عوسجة، فيقول له:(آه، كيف استطعتَ المكثَ ما بينَ الجراح، وأنتَ أكبرُ من جُرحِ الغد؟).
فيبتسمُ مسلمٌ، وهو يتمتمُ بحروفِ اسمِ الحسين، فتتوقّفُ حركةُ الخيول، وتُصابُ السيوفُ بالصدأ.وعندما وقف الحرُّ الرياحي، ليرسمَ خطَّ الشروعِ ما بينَ معسكرِ الدنيا ومعسكرِ الخلود، ويختارَ الرحيلَ في ركبِ الحسين، مكلّلًا بباقاتِ وردٍ من التلّ الزينبي، توقّفت وكالاتُ الأنباءِ عن الأخبارِ العاجلة، لأنّ موقفَ الحرِّ الرياحي كان طريقًا عاجلًا لبلوغِ الخلودِ النهائي، فعَلّقَ كلّ الصحفِ الصفراءِ خلفه… وغادر.
