الشیخ الدکتور ياسر الحميداوي
في كل مرة يشتعل فيها جرح الأمة، تعود بنا الذاكرة إلى محطات مفصلية في تاريخنا العربي والإسلامي. محطات لم تكن مجرد وقائع تاريخية، بل تحولت إلى رموز خالدة لرفض الظلم، ومقاومة الاستبداد، والتشبث بالكرامة حتى آخر قطرة دم. ومن بين تلك المحطات، تبرز واقعة كربلاء، لا كحدث عابر، بل كملحمة أخلاقية وإنسانية تجسدت فيها كل معاني الإباء والتضحية. واليوم، ومع اشتداد الحصار والعدوان على غزة، تُستعاد كربلاء لا كماضٍ منتهٍ، بل كراهن متجدد، في معركة ما تزال فصولها تُكتب بالدم والألم والبطولة.
إن الرابط بين كربلاء وغزة ليس مجرد تشابه في المآسي أو تكرار للمظلومية، بل هو امتداد لخط مقاومة واحد، يقف فيه الأحرار في وجه الطغاة، مهما اختلفت الأسماء والرايات. الحسين بن علي، سبط النبي، وقف في وجه الحكم الأموي الذي حوّل الخلافة إلى ملك عضوض، وتمرد على بيعة تُفرَض بالقوة، فاختار الشهادة على أن يركع للظلم. واليوم، في غزة، يقف رجال ونساء وأطفال، لا يملكون إلا إيمانهم وعدالة قضيتهم، في مواجهة آلة عسكرية لا تعرف رحمة، ولا تقيم وزناً لأي قانون دولي أو إنساني.
لقد كان العرب، في فجر الإسلام، طليعة الثورات على الطغيان. حرروا الشعوب، وأقاموا حضارة امتدت من الصين إلى الأندلس، لا بسلاح القوة وحدها، بل بقوة الفكرة والرسالة. غير أن هذا المجد بدأ يتهاوى عندما تحولت السلطة إلى غاية، وانقلبت المبادئ إلى أدوات، وبدأت الخلافة تفرغ من بعدها الرسالي، لتصبح إرثاً يتوارثه الأقوياء، لا رسالة يحملها الأمناء.
اليوم، تتكرر المأساة، وتُباد غزة أمام أعين العالم، بينما تقف الأنظمة العربية عاجزة – أو متواطئة – تُنفق المليارات على صفقات السلاح، لا لتحرير الأرض أو حماية الشعوب، بل لضمان بقائها في السلطة، ولمواجهة شعوبها وقتما انتفضت تطالب بحقوقها. وبينما تتدفق الأسلحة إلى أيدي من يخدمون مصالح القوى الكبرى، تظل غزة تُحاصر، تُجوّع، وتُقصف، دون أن تجد من يمدّ لها يد العون الحقيقي.
لكن، هل تموت الشعوب؟ وهل يُقبر الحق بالقوة؟ التاريخ يعلمنا أن الدم لا يُهزم، وأن المآذن التي صمتت في زمن، ستعلو من جديد. في كربلاء، لم ينتصر الحسين في المعركة، لكنه انتصر في الذاكرة والضمير. واليوم، قد لا تملك غزة القدرة على كسر الحصار عسكرياً، لكنها كسرت حاجز الخوف، وأسقطت أقنعة كثيرة، وحرّكت ضمير أمة كاد أن يخبو.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي ميدان كربلاء المعاصر، حيث يتجدد الامتحان الأخلاقي للأمة جمعاء. وأبطال غزة ليسوا فقط مقاومين بالسلاح، بل هم أيضاً مقاومون بالصمود، بالبسمة رغم الجراح، بالإصرار على الحياة رغم الموت المحيط من كل جانب.
إن نداء الحسين، الذي دوّى في كربلاء قبل أكثر من ألف عام، لا يزال يتردد اليوم في أزقة غزة، وعلى ركام منازلها، وفي عيون أطفالها: “هيهات منا الذلة”. هو نداء لا يعرف الزمن، ولا يخضع للتقادم. إنه موقف، وعقيدة، وخيار لا يقبل المساومة.
وفي زمن تكالبت فيه قوى الطغيان، وتواطأت فيه بعض الضمائر، وتراجعت فيه كثير من النخب، يبقى صوت غزة وكربلاء معاً، هو البوصلة الوحيدة التي تذكّرنا أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع… وأن الدم الشريف، وحده، هو القادر على تطهير الأرض من دنس الطغاة.
ختامًا، فإن من كربلاء إلى غزة، ليس الخط إلا واحدًا: خط الرفض، وخط المقاومة، وخط الكرامة… خط لا يعرف الذل طريقًا، ولا يقبل بالهوان قدرًا. ومن يسلكه، يعلم أن النصر قد يتأخر، لكنه آتٍ لا محالة.
هيهات منا الذلة.