محققو التواصل الاجتماعي: بين كشف الحقائق وتضليل الرأي العام

هيئة التحرير8 أغسطس 2025آخر تحديث :
محققو التواصل الاجتماعي: بين كشف الحقائق وتضليل الرأي العام

 

 

بقلم: الدكتور بسام عبدالله الهذال

 

في العصر الرقمي، بات من المعتاد أن تنفجر قضايا تمس الرأي العام في لحظة، وتتدفق التعليقات، والتحليلات، والمقاطع المصورة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن يصدر أي تصريح رسمي أو تقرير صحفي موثوق. في خضم هذا المشهد المتسارع، ظهر ما يمكن تسميته بـ”محققو التواصل الاجتماعي”، أولئك الذين يتقمصون دور الصحفي أو المحقق، يستنتجون، ويحللون، ويحكمون، أحيانًا بدقة، وأحيانًا كثيرة دون وعي أو دليل.

 

من قضايا القتل الغامضة، إلى التحقيقات في الفساد الإداري والمالي، مرورًا بحوادث السير، والاعتداءات، والتصريحات الرسمية التي تُجتزأ من سياقها، وجدنا المواطن الرقمي حاضرًا بقوة؛ يدوّن، يعلّق، ويشارك، لكنه كثيرًا ما يتحول دون قصد إلى جزء من صناعة الزيف بدلاً من محاربته.

 

المشكلة لا تكمن فقط في النية، بل في غياب أدوات التحقق، والتسرع في الحكم، والميل إلى العاطفة بدلًا من العقل. فبينما يعتقد المواطن الرقمي أنه يؤدي “واجبًا وطنيًا” أو “يخدم الحقيقة”، نجده في أحيان كثيرة يُسهم في تضليل الجمهور، ويظلم أبرياء، ويدفع باتجاه مسارات خطيرة.

 

وقد تجاهل كثير من هؤلاء “المحققين الرقميين” أن المرجعية الحقيقية لأي قضية تخص الرأي العام يجب أن تكون التقارير الرسمية الصادرة عن الجهات المختصة، مثل دائرة الأدلة الجنائية، أو اللجان التحقيقية القضائية، أو البيانات الصادرة عن المؤسسات الأمنية أو القضائية. فهذه الجهات تملك الصلاحيات والأدوات العلمية التي تخضع للضوابط القانونية، وليست مجرد استنتاجات مبنية على لقطة أو تعليق عابر.

 

في أحد الأمثلة، انتشر مقطع فيديو لمشاجرة في الشارع، وتم اتهام شخص بريء بأنه وراء الحادثة بناءً على “تشابه ملابس”، ليتضح لاحقًا — بحسب تقرير الأدلة الجنائية — أنه لم يكن في مكان الحادث أصلًا. وفي حادثة أخرى، اجتزئ تصريح لمسؤول وأعيد تداوله على نطاق واسع بطريقة شوهت معناه، وتسببت بحملة تشهير واسعة دون التحقق من المصدر الأصلي أو السياق الكامل.

 

إن ثقافة المحاكمة الجماهيرية على صفحات الفيسبوك أو تويتر أصبحت سيفًا ذا حدين. صحيح أنها كشفت في بعض الحالات عن قصص تستحق المتابعة، لكنها أيضًا شوهت مسارات العدالة، وأثارت الرأي العام بطريقة مضللة.

 

لا يمكن أن نتجاهل دور المواطن الرقمي، لكن من المهم أن نفهم أن كل منشور، وكل تعليق، وكل مشاركة، أصبحت أداة يمكن أن تساهم في بناء الحقيقة أو هدمها. لذلك، فإن تعزيز الوعي الإعلامي، ونشر ثقافة التحقق، واحترام القوانين، بات أمرًا لا غنى عنه.

 

وفي النهاية، تبقى الحقيقة بحاجة إلى أدوات مهنية، وصبر على التمحيص، لا إلى استعجال في الحكم وتبادل الاتهامات. فـ”محقق كونان” الحقيقي ليس من يسارع إلى التهمة، بل من يعرف أن أخطر ما يواجهه المجتمع اليوم ليس الجريمة فقط، بل زيف الحقيقة في زمن المعلومات المفتوحة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل ...

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق