بقلم: ثامر الشمري
في تطورٍ وصفه مراقبون بأنه تحوّل استراتيجي في موازين الخطاب الغربي تجاه القضية الفلسطينية، أعلنت ثلاث دول أوروبية — إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج — اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، بعد تنسيق مشترك غير مسبوق، جاء بعد أيام فقط من قمة بغداد، التي شهدت حضور رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز بدعوة مباشرة من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.
هذا الإعلان لم يكن مجرد “تصريح دبلوماسي”، بل أقرب إلى زلزال في السياسة الأوروبية، حمل رسائل متعددة الاتجاهات: إلى إسرائيل، إلى الولايات المتحدة، إلى الدول العربية، وإلى الداخل الأوروبي نفسه.
⸻
اعتراف متأخر.. لكنه صاخب
الاعتراف الأوروبي الجديد بفلسطين أعاد فتح النقاش حول مسؤولية الغرب التاريخية تجاه القضية، لكنه هذه المرة لم يأتِ على شكل بيانات تقليدية أو دعوات “للتهدئة”. بل أتى كخطوة ملموسة في وجه ما وصفته الدول الثلاث بـ”الفشل المستمر في احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة”.
إسبانيا، أيرلندا، والنرويج — ومن خلفهم موجة أوروبية آخذة بالتشكل — أعلنوا أن وقت المجاملة الدبلوماسية انتهى، وأن الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، لم يعد مؤجلاً بحجة “انتظار اللحظة المناسبة”.
⸻
قمة بغداد: لحظة فارقة أم مجرد صدفة؟
ربط محللون توقيت هذا الاعتراف بحضور رئيس الوزراء الإسباني قمة بغداد، حيث أعرب خلال كلمته عن ضرورة “حل سياسي عادل وشامل”، و”دور أوروبي جديد أكثر توازناً في الشرق الأوسط”.
دعوة بغداد كانت لافتة. واستجابة سانشيز لها — رغم تعقيدات الحرب في غزة وتوتر علاقات إسبانيا بإسرائيل — حملت دلالة أن أوروبا، أو جزءاً منها على الأقل، بات يبحث عن شرعية جديدة لدوره في المنطقة، بعيداً عن الهيمنة الأمريكية أو الإرث الاستعماري. وربما تكون بغداد هي بوابة العودة.
⸻
أثر الصدمة في إسرائيل: عزلة دبلوماسية وقلق استراتيجي
الرد الإسرائيلي كان سريعاً وغاضباً. سحبت الحكومة الإسرائيلية سفراءها من مدريد وأوسلو ودبلن، ووصفت الخطوة بأنها “مكافأة للإرهاب”. لكن خلف هذا الرد المتشنج، يقبع قلق حقيقي من أن هذه الخطوة قد تتحول إلى كرة ثلج.
سياسياً، ستجد إسرائيل نفسها في مواجهة تحركات أوروبية متسارعة نحو الاعتراف، خاصة إذا لحقت بها دول مثل فرنسا، بلجيكا، وسلوفينيا.
اقتصادياً، قد تمهّد هذه الاعترافات لتوسيع المقاطعة الشعبية والأكاديمية والاقتصادية، أو على الأقل تعزيز حملات الضغط على الشركات العاملة في المستوطنات.
أمنياً، تخشى إسرائيل من أن يُترجم هذا الزخم الدولي إلى قرارات في الأمم المتحدة، أو إلى ضغط فعلي على المحكمة الجنائية الدولية لتسريع ملفات التحقيق في جرائم الحرب، وهو ما سيؤثر على صورة إسرائيل الاستراتيجية دولياً.
⸻
موقف واشنطن: الغضب الصامت؟
الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل التاريخية، لم تُصدر بعد موقفاً حاداً، لكنها عبرت عن “خيبة أمل” من التحرك الأوروبي، معتبرة أن “الاعتراف الأحادي لا يخدم السلام”.
لكن في الخلفية، تدرك واشنطن أن قدرتها على ضبط إيقاع العالم آخذة في التراجع، وأن مشهد “حلفائها” يعلنون قرارات بهذا الحجم دون العودة إليها، هو رسالة عن تآكل هيبة القيادة الأمريكية في النظام الدولي ما بعد 7 أكتوبر 2023.
⸻
ماذا يعني هذا الاعتراف؟
• نهاية الاحتكار الأمريكي للعملية السياسية في الشرق الأوسط.
• عودة الصوت الأوروبي المستقل في قضايا الجنوب العالمي.
• رفع معنويات الفلسطينيين في ظل مجازر غزة، ورسالة بأن العالم لا يزال يصغي.
• تحول في الرأي العام الغربي، حيث أظهرت استطلاعات دعمًا واسعًا لوقف إطلاق النار واعترافٍ بالدولة الفلسطينية، حتى داخل مجتمعات إسرائيلية داعمة تقليدياً.
⸻
خاتمة: هل بدأ زمن الاعتراف؟
ربما لا يكون الاعتراف الأوروبي كافياً لتغيير الواقع على الأرض فوراً، لكنه بالتأكيد لحظة رمزية تاريخية، تمثل بداية تآكل الحصانة السياسية التي تمتعت بها إسرائيل لعقود.
ما حدث ليس مجرد تحول دبلوماسي، بل نذير بمرحلة جديدة — مرحلة ما بعد الصمت، ما بعد المجاملة، وربما ما بعد الهيمنة الغربية الأحادية على قرار فلسطين.
من بغداد إلى مدريد… رسالة واحدة تتردد: فلسطين ليست وحدها.