قلوب لا تهزمها الحروب

هيئة التحرير15 يوليو 2025آخر تحديث :
قلوب لا تهزمها الحروب
قلوب لا تهزمها الحروب

رياض الفرطوسي

على أرضٍ كانت تكتب بالحبر وتغتسل بالدم، بين وجع الذاكرة وخفقة الأمل، وقف شعبٌ ظنّ كثيرون أن الحروب ستطوي قصته ذات يوم. لكن الحروب، مهما احتدمت وعلت أصواتها، لم تنتصر أبداً على قلوبٍ عرفت كيف تُبقي النار دفينةً في الرماد، وكيف تصنع من الألم جسراً إلى الغد.في العراق، اعتاد الناس أن يسيروا فوق شظايا الأمس، وأن يزرعوا الحياة في تربة أكلتها النيران. صاروا يلتقطون الوعود من كل قطرة ضوء، ويشمّون رائحة الغد في كل نسمة عابرة. وبين ركام المدن وأنين المدافع، ظلّت أرواحهم كشجرة تنحني للعاصفة لكنها لا تنكسر.نحن أبناء هذا الوطن الذي عاش طويلًا على حافة الموت، تعلمنا أن نفهم طعم الحياة كما لا يفهمه أحد سوانا.

من عاش القاع يعرف كيف يفرح بتفصيلة صغيرة: برقصة طفل وسط الخراب، بزهرة برية تشقّ حجر الرصيف، بضحكة تولد فجأة في زحام الحزن. صار لنا قلب أشد رهافة، لأننا جرّبنا أقسى ما في الحياة، وخرجنا منها أحياء.صحيح أنّ من يغيب في الحرب يرتاح من العذاب، لكن من يبقى حيّاً يحمل على كتفيه ثقل الذكريات، وخوف الطرقات الخالية ليلًا، وارتعاشة الأبواب حين تدقّ فجأة، ورهبة خبر قد يغيّر مسار العمر.

ومع ذلك، لم تهزمنا الحروب. لأن فينا، منذ فجر الحضارات، روح كلكامش الذي خرج يبحث عن سر الخلود، فعاد وهو يدرك أن الخلود ليس في الهروب من الموت، بل في أن يبقى للإنسان قلبٌ يعرف الحب والدهشة والعطاء. كلكامش الذي شقّ غابات المجهول، هو نفسه الذي يسكن قلوبنا اليوم، يهمس لنا أننا خُلقنا للحياة، لا للفناء.لسنا أقل إنسانية أو إحساساً من شعوب الأرض، ولا أقل استحقاقاً للأمل. الفرق الوحيد أن ذاكرتنا مثقلة بطعنات متلاحقة، لكن هذه الذاكرة ذاتها أصبحت سلاحاً نواجه به العتمة.

أدركنا أن الليل مهما طال، لا بد أن يذوب في خيوط الفجر.صحيح أن هناك من يلتقط صور الدم كأنه يقتني تذكاراً، لكن قلوبنا ما زالت ترتجف أمام دمعة إنسان يتألم. ما زال فينا ذلك الخيط المقدّس الذي يفصلنا عن الهمجية، مهما حاولت الحروب أن تروّض حواسنا على العنف أو تُخدر إنسانيتنا.حتى أطفالنا الذين رأوا من الرعب ما لا يليق بأعمارهم، يضيئون بعيون تقول: «نحن هنا… والحياة ما زالت تستحق.» في ضحكاتهم مقاومة صامتة، وفي ألعابهم مشروع سلام صغير.نحن لسنا شعباً مهزوماً، بل شعب مجرّب، خرج من نيران التاريخ أشد توقاً للجمال.

تعلمنا أن الألم ليس قدراً أبدياً، بل جسرٌ يعبر بنا نحو ضفة أكثر أماناً. تعلمنا أن الحروب مهما امتدّت لا تستطيع أن تخنق أحلامنا.قد يقول قائل: لكن ماذا نفعل، وثقافتنا ثقافة حرب، وأدبنا أدب حرب، وفنوننا فنون حرب؟ أقول: نعم، هي كذلك، لأن الحرب ظلت تطرق أبوابنا دون استئذان، فتسرّبت إلى قصائدنا، وحكاياتنا، ولوحات فنّانينا. لكن وسط كل هذا، بقيت فينا قلوبٌ تعرف كيف تُحوّل الرماد إلى قصائد حب، والخراب إلى أمل. قلوبٌ تحفظ أسطورة كلكامش، وتظل تنبض بالحب والكرامة، حتى في أعنف العواصف.فالحرب قد تكون قدَر المكان، لكنها أبداً لم تكن قدَر قلوبنا. تلك القلوب التي لا تهزمها الحروب.

عاجل ...

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق