بقلم : ثامر الشمري
في تحول مفاجئ وسريع، بدأت مصر وإيران – خصمان تاريخيان – خطوات تقارب أثارت دهشة المراقبين. العلاقات بين البلدين ظلت لعقود مشحونة بالتوترات والاصطفافات المتعارضة، خاصة بعد الثورة الإيرانية عام 1979 واغتيال السادات، لكن اللحظة الإقليمية والدولية الآن تدفع إلى إعادة رسم الخرائط والتحالفات.
فلماذا اختارت القاهرة وطهران هذه اللحظة بالتحديد؟ ما دوافع هذا التقارب، وما انعكاساته على السياسة والأمن والاقتصاد في المنطقة؟ ومن الرابح والخاسر في هذا التحرك؟ المقال يحلل خلفيات هذا التحالف المحتمل ويفكك أبعاده العميقة.
⸻
تقارب في زمن التصدّع: لماذا الآن؟
الشرق الأوسط يشهد تحولات عميقة، أبرزها تراجع النفوذ الأميركي التقليدي، وصعود أدوار جديدة لقوى إقليمية مثل تركيا، ولعالمية مثل الصين وروسيا. في هذا السياق، تعيد دول المنطقة ترتيب أوراقها.
مصر تواجه ضغوطًا اقتصادية غير مسبوقة: أزمة عملة، تآكل الاحتياطي النقدي، وانخفاض ثقة بعض المانحين الخليجيين في برامجها الاقتصادية. بينما إيران، المثقلة بالعقوبات، تسعى لاختراق جدار العزلة العربية، والتعامل ببراغماتية مع دول المحيط العربي السُني لتأمين نفوذها دون توتر دائم.
الطرفان، إذن، يلتقيان عند نقطة المصالح لا القيم. هي شراكة اضطرار لا تقارب أيديولوجي، لكنها تكشف أن معادلات القوى تتغير عندما تشتد الأزمات.
⸻
شراكة بلا تحالف: الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية
سياسيًا، القاهرة تسعى لتثبيت موقعها في طاولة القرار الإقليمي عبر انفتاح متعدد الاتجاهات. ومن خلال الحوار مع طهران، توجه رسالة مفادها أنها لم تعد رهينة المحاور، وأنها قادرة على المبادرة بدلًا من الاستجابة فقط.
أما إيران، فترى في هذا الانفتاح فرصة لشرعنة نفوذها السياسي، وخفض التوتر مع بلد عربي محوري. كما أنه يتيح لها هامش مناورة أكبر في مواجهة الضغوط الغربية والإسرائيلية، عبر تحسين علاقاتها مع أطراف عربية فاعلة.
أمنيًا، يمكن أن يخلق هذا التقارب قنوات تنسيق محدودة في ملفات مثل أمن البحر الأحمر، مكافحة التهريب والسلاح، أو حتى ضبط بعض امتدادات الجماعات العابرة للحدود. ومع تصاعد المخاطر الإقليمية، تسعى كل دولة لتقليل خصوماتها المفتوحة.
اقتصاديًا، تطمح مصر لجذب استثمارات من إيران، أو على الأقل فتح قنوات تجارية تخفف من العزلة. إيران بدورها تبحث عن شركاء خارج دائرة العقوبات، والتعامل مع مصر يمنحها منفذًا إلى شمال إفريقيا والأسواق الدولية.
⸻
إيران تحصد المكاسب ومصر تناور: من المستفيد؟
على المدى القريب، إيران هي الرابح الأكبر رمزيًا. الدخول في حوار مفتوح مع دولة بحجم مصر يعطيها دفعة دبلوماسية قوية، ويؤكد قدرتها على كسر الجدران العربية التي كانت تُفرض حولها.
أما مصر، فهي تستخدم هذا التقارب كورقة تفاوضية إقليمية: لا للقطيعة مع الخليج، ولا للتبعية الكاملة له. فالتوازن بين المحاور بات أحد شروط البقاء السياسي في منطقة تمور بالصراعات.
ومع أن الفائدة الاقتصادية المباشرة قد تكون محدودة، فإن مكاسب النفوذ والقدرة على التفاوض مع الجميع – أميركا، الخليج، إيران – تعني استعادة دور الوسيط، لا الطرف.
⸻
تل أبيب تراقب وواشنطن تعيد الحسابات: رد فعل الحلفاء
إسرائيل تنظر بقلق إلى هذا التطور، ليس لأن مصر ستتحالف عسكريًا مع إيران، بل لأنها قد تصبح أقل تجاوبًا مع الضغوط الإسرائيلية في ملفات مثل غزة، أو التنسيق الاستخباراتي. فالقاهرة التي تستمع لطهران، قد لا تنحاز دائمًا لرؤية تل أبيب.
الولايات المتحدة، وإن كانت تدعم مصر اقتصاديًا وعسكريًا، إلا أنها تجد نفسها أمام شريك يبتعد نسبيًا عن الموقف الأميركي التقليدي المناهض لإيران. هذا قد يؤدي إلى ضغوط أكثر حدة أو مراجعة لشكل الشراكة الأمنية.
ومع ذلك، تدرك واشنطن أن خسارة مصر لصالح الصين أو روسيا أو إيران بالكامل مستبعدة، لكنها ترصد هذه الانعطافة بقلق محسوب.
⸻
الخليج يراقب بقلق مكتوم: توازن هش بين الشك والانفتاح
بالنسبة لدول الخليج، فإن التقارب المصري الإيراني ليس فقط شأنًا ثنائيًا، بل يمس بنية التحالفات التي استُثمر فيها سياسيًا واقتصاديًا لعقود. السعودية، التي تقود مسار تهدئة مع طهران برعاية صينية، لن تعارض هذا التقارب طالما أنه تحت السيطرة. لكنها لن تتسامح مع أي انزياح مصري يتجاوز الخطوط الحمراء الأمنية.
الإمارات قد تجد في هذا التقارب خطوة مفهومة، لكنها ستراقب نتائجه على الأرض، خاصة إذا ترافقت مع مواقف مصرية مغايرة في ملفات اليمن أو أمن الخليج.
الكويت والبحرين – بخلفيتهما الأمنية والطائفية المعقدة – قد تشعران بالقلق من أي تقارب يُشعر إيران بالثقة الزائدة، أو يرسل رسائل سلبية عن وحدة الصف الخليجي.
⸻
العراق كمنصة مراقبة: شريك محتمل أم متلقٍ صامت؟
العراق، الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع كل من مصر وإيران، سيكون مراقبًا نشطًا لهذا التقارب. لا يتوقع أن يتدخل، لكنه قد يستخدمه لتعزيز تحالفاته مع القاهرة أو لتخفيف الضغوط عن بغداد نفسها.
قد يرى في هذا التقارب فرصة لتعزيز دوره كجسر حوار في المنطقة، خصوصًا أن العراق نفسه نموذج مركب في إدارة التوازن بين العرب وإيران. لكنه سيظل حذرًا من أن يتحول إلى ساحة تنافس جديدة بين مصالح البلدين.
خاتمة: المنطقة تتغيّر… والأدوار تُعاد صياغتها
ما يجري بين مصر وإيران ليس فقط تصالحًا، بل إعادة تعريف للنفوذ في الشرق الأوسط. لم تعد التحالفات قائمة على العقيدة أو التاريخ، بل على منطق النجاة السياسية والاستفادة الاقتصادية.
قد لا يتحول هذا التقارب إلى تحالف استراتيجي عميق، لكنه يكفي ليقلب بعض قواعد اللعبة القديمة، ويخلق توازنًا جديدًا في مواجهة صراعات مستمرة من غزة حتى باب المندب.
في النهاية، المنطقة تدخل مرحلة توازنات هشة لكن متحركة – فيها مناورون لا تابعون، ومصالح تتقاطع لا تصطدم دائمًا