كتب رياض الفرطوسي
في بلدٍ أنهكته العواصف، وتراكمت على وجهه تجاعيد الانتظار، تنهض فجأة يدٌ من بين الركام، تلتقط الفأس لا الميكرفون، وترمم بدل أن تُنظّر. لم تأتِ هذه النهضة من فوضى الأهواء ولا الصفقات، بل من رجالٍ قرروا أن يشتغلوا بالمعنى لا بالصدى. هم رجال الدولة الذين لا يعرفون الاستعراض، ولا يستهويهم وهج الكاميرات، لأن عيونهم معلقة على الغد، لا على العناوين العاجلة.
كنتُ أتجول في بغداد، وفي مدن العراق التي أرهقها الإهمال، وإذا بالمشهد يتحول: بنايات تنهض، طرق تُعبّد، مدارس تُفتح، جسور تمتد فوق هوة الإحباط، ومستشفيات تستعيد رسالتها. حركة بناء تُرى بالعين المجردة، ولا تحتاج إلى ناطق رسمي ليبررها، لأنها تتكلم بوضوحٍ من لا يعرف الزيف.
لم تكن هذه المشاريع ناتجة عن (المزامط) ولا عن طقوس الطشة العراقية، بل عن فكرٍ يشتغل بمنهج العمل، وعن عقولٍ عرفت أن البناء يبدأ حين نؤمن بالأسباب، لا بالمعجزات.
لقد تعطّلت الدولة لسنوات، كما تتعطل سيارة أهملت صيانتها. وكانت بحاجة إلى “مُصلح” لا إلى شاعر رثاء. وجاء رجال الدولة الجدد، يتقدمهم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني (مهندس السياسة الهادئة، وراعي النهضة الواقعية)، ليبدأوا بإعادة تشغيل آلة الدولة عبر خطوات محسوبة، وتخطيط علمي، وإرادة لا تستسلم للتثبيط.
رجال الدولة لا يصرخون في الندوات، ولا يكتبون بالخط العريض على صفحات الجرائد، لكنهم يوقّعون يومهم بالعرق والعمل. هم الذين يوقنون أن التغيير لا يُصنع بالشعارات، بل بالمستشفيات التي تُرمم، والمدارس التي تُبنى، والفرص التي تُمنح للعراقيين في كل المحافظات.
ليس من باب الصدفة أن تعود الشركات الاستثمارية إلى العراق، ولا أن تتسابق الوفود الدولية لمراجعة فرص العمل هنا. بل لأن هناك من وضع أساساً لاستقرار سياسي وأمني حقيقي، وبدأ يفكر كـ”دولة” لا كـ”غنيمة”.
المؤسسات حين يشرف عليها تكنوقراط لا علاقة لهم بعُقد السياسة، ينشغلون في وضع الرؤية لا في كتابة بيانات النفي، تصبح أكثر قدرة على توفير بيئة استثمارية آمنة، تفتح أبواب الأمل أمام الشباب العراقي الذي سئم البطالة والتسويف.
وقد أدرك الرئيس السوداني ومعه فريقه من رجال الدولة أن القضاء النزيه هو الدعامة الأساسية لنهضة مستدامة، وأن لا نهضة في ظل الظلم أو الفوضى أو المحاباة. ولهذا بدأت لغة الدولة تعود شيئاً فشيئاً، لا كأوامر عليا، بل كعقد جديد بين الناس والمؤسسات.
حين نسافر في العالم، نتأمل: لماذا استطاعوا أن يبنوا كل ذلك؟ أليس لديهم نفس عدد الأذرع؟ أليسوا من لحم ودم؟ الجواب دائماً في ثقافة احترام القانون، وفي إيمان المواطن بدولته. نحن اليوم على عتبة هذا التحول، إن أحسنا الإمساك بالفرصة، وساندنا من يريد أن يُكمل المسيرة لا أن يقطعها بمزايدات انتخابية.
إن العراق يمر بواحدة من أهم مراحله: تحول من دولة مُعطلة إلى دولة فاعلة وحكومة مشروع. مشروع اسمه التنمية، لا المناصب. والحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نلتف حول رجال الدولة، لا حول الشعارات الخاوية.
مع اقتراب الانتخابات، لا بد أن نراجع أنفسنا: من ننتخب؟ من الذي نزل إلى الميدان؟ من الذي أنجز لا من وعد؟ من الذي شق الطرقات لا من أقام الخيم الخطابية؟ الميزان واضح: العمل هو المعيار، لا الانتماء ولا الخطاب ولا التباهي والاستعراض.
لقد أثبت السيد محمد شياع السوداني أنه ليس رجل سلطة، بل رجل دولة. رجل لا يتكئ على تاريخه، بل يصنعه. ومعه رجال لا يملّون من العمل، ولا يضيعون الوقت في صراعات الاستهلاك الإعلامي.
نحن لا نمجد أحداً، بل نحتفي بالمنجز. لا نُعلي الأشخاص، بل نُعلي الفعل. والفعل واضحٌ اليوم، لمن يرى ويسمع ويقارن.
هي دعوة للعراقيين، في الشارع، في السوق، في الجامعات، في الأحياء الشعبية، وفي وسائل التواصل: انتبهوا جيداً! نحن لا ننتخب شعارات، بل ننتخب مصيرنا. فإما أن نواصل البناء، أو نعود إلى دوامة الخراب المزين بالخطابات التي ملّها الشارع .
رجال الدولة لا يطلبون منا التصفيق، بل الشراكة. لا يريدون منّا التمجيد، بل الفهم. الفهم بأن العراق يمكن أن يُبنى، ليس بمعجزة، بل برجال يعرفون كيف يعملون، وشعب يعرف كيف يختار.