بقلم: الدكتور: بسام عبد الله الهذال
في زمن أصبحت فيه المعلومات متاحة بسرعة فائقة، تبرز الصحافة الاستقصائية كوسيلة لا غنى عنها لتقصي الحقائق وكشف ما يختبئ وراء العناوين البراقة. لم يعد الوصول إلى المعلومة أمرًا صعبًا في ظل انتشار الإنترنت، لكن فرز الحقيقة من بين سيل المعلومات أصبح مهمة معقدة تتطلب دقة وصبرًا. هنا يتجلى دور الصحفي الاستقصائي، الذي يتجاوز نقل الأحداث إلى تحليلها والغوص في تفاصيلها، باحثًا عن الأدلة ومراجِعًا للوقائع ليكشف الصورة الكاملة.
ظهور الأخبار على منصات التواصل الاجتماعي يجعل الجمهور يتلقفها بسرعة، لكن قليلًا ما يتساءل الأفراد عن مدى مصداقية ما يُنشر. وهنا تتمايز الصحافة الاستقصائية بكونها لا تعتمد على ما يظهر على السطح، بل تسعى لتتبع الخيوط والكشف عن الجوانب الخفية. وقد يستغرق التحقيق الاستقصائي أشهرًا وربما سنوات، لكن نتائجه تترك أثرًا بعيد المدى، إذ تسهم في كشف الفساد، وتصحيح المفاهيم، وتعزيز الشفافية بين الجمهور ووسائل الإعلام.
ومع ذلك، لم تعد مهمة الصحفي الاستقصائي بسيطة كما كانت في السابق. ففي ظل التدفق الهائل للمعلومات عبر الفضاء الرقمي، أصبح التمييز بين الحقائق والإشاعات تحديًا يوميًا. كما أن حماية المصادر باتت أكثر تعقيدًا نظرًا لتطور تقنيات المراقبة. ورغم هذه العقبات، فإن الأدوات الرقمية نفسها أصبحت حليفًا قويًا للصحفي، إذ توفر قواعد البيانات الإلكترونية وبرامج تحليل البيانات إمكانيات واسعة لتتبع القضايا المعقدة والوصول إلى أدلة كانت بعيدة المنال في الماضي.
لكن التكنولوجيا وحدها لا تكفي. فالصحافة الاستقصائية تقوم على مهارات الصحفي في البحث والتقصي، وقدرته على قراءة ما وراء الكلمات، وإصراره على الوصول إلى الحقيقة رغم الصعوبات. ولا تزال المقابلات المباشرة مع المصادر، ومراجعة الوثائق الورقية، وملاحظة تفاصيل الأحداث عناصر أساسية في أي تحقيق جاد، مهما تطورت الوسائل الرقمية.
وفي الختام، تظل الصحافة الاستقصائية حجر الأساس في بناء مجتمع أكثر وعيًا وعدالة. ففي عصر تتزاحم فيه المعلومات وتتداخل الحقائق مع الأوهام، يصبح دور الصحفي في كشف الحقائق ضرورة لا غنى عنها. وعلى الرغم من التحديات التي فرضتها البيئة الرقمية، ستظل الصحافة الاستقصائية، بإصرارها على الدقة والبحث عن الحقيقة، منارة تنير دروب المعرفة في عالم يزداد تعقيدًا.
