في زمن تمتلئ فيه الشاشات والمواقع والهواتف النقالةبالأخبار والآراء، لم يعد الجهل مجرد نقص في المعلومة، بل صار أداة تُستخدم لتشويه الحقيقة وتضليل الشعوب. وهنا تأتي أهمية ما يطرحه كتاب “أغنوتولوجيا: صناعة الجهل وتفكيكه” (Agnotology: The Making and Unmaking of Ignorance)، الذي صدر عام 2008 للباحثين روبرت بروكتور ولوندا شيبينغز، حيث يكشف أن الجهل ليس دائمًا عفويًا، بل قد يُنتَج ويُدار عن قصد، لخدمة أهداف سياسية أو اقتصادية أو حتى أيديولوجية.
هذا الكتاب لا يتحدث فقط عن الماضي، بل يفتح أعيننا على ما يحدث الآن حولنا، حين يتم تشويه صورة بلدٍ ما، أو تحجيم إنجازاته، أو اختزال تاريخه في أزمات مفتعلة متكررة. كل ذلك ليس مجرد سهو، بل قد يكون نتاج مشروع لصناعة جهلٍ جديد، متعمد ومنظم. وهذا ما ينطبق تمامًا على الحالة العراقية.
منذ سنوات، والعراق يُقدَّم في الإعلام الخارجي على أنه ساحة دمارٍ مستمر، أو نزاع دائم، دون أن يُقال للعالم إن هذا البلد ينهض من تحت الركام، ويعيد بناء ذاته بخطى ثابتة، وبمشاريع تنموية واضحة، وبإرادة سياسية تستند إلى تجربة قاسية لا تريد أن تتكرر.
هناك من يُصرّ على تجاهل التطور الذي يحدث في العراق اليوم، سواء في البنية التحتية، أو في التحول الرقمي، أو في الأمن والاستقرار. وهناك من يروّج لصورٍ نمطية عن المواطن العراقي على أنه مجرد ضحية أو لاجئ، بينما يُغفل صور الشباب الذين يقودون الابتكار والمبادرات، ويصنعون التغيير في مجتمعاتهم.
هذه الصورة المشوشة عن العراق ليست خطأً عابرًا، بل، في كثير من الأحيان، تكون جزءًا من صناعة جهلٍ موجَّه، هدفه تعطيل عودة العراق إلى مكانته الحقيقية كدولةٍ محورية في المنطقة، وكصوتٍ حضاري يمتلك عمقًا تاريخيًا وثقافيًا لا يمكن تجاوزه.
وهنا، تتقاطع هذه الحالة مع ما أورده بروكتور وشيبينغز في كتابهما، حين أكدا أن هناك جهاتٍ تمتهن صناعة الجهل، وتقوم بإخفاء أو تشويه المعلومات الحساسة والمؤثرة، لتوجيه وعي الشعوب نحو رؤيةٍ مشوهة للواقع. والعراق اليوم، للأسف، مثالٌ حي على ذلك.
حين يُصنع الجهل بهذه الطريقة، يصبح من واجبنا أن لا نصمت، وأن لا نستهلك الروايات الجاهزة، بل أن نواجه التعتيم بالفهم، وأن نقابل التشويه بالتوثيق، وأن نُظهر للعالم ما لا يُقال في التقارير السريعة والأخبار الموجَّهة.
فـ”الأغنوتولوجيا”، كما يقدمها هذا الكتاب، ليست مجرد مفهومٍ أكاديمي، بل هي أداة لفهم كيف ولماذا يتم إخفاء بعض الحقائق عن العراق، ولماذا يُراد لهذا البلد أن يبقى محصورًا في صورةٍ واحدة ضيقة، بينما هو اليوم يعيش واقعًا متعدد الأبعاد، مليئًا بالحركة والتجدد والمبادرة.
من هنا، فإن مقاومة الجهل المصنوع لا تعني فقط كشف الحقيقة، بل أيضًا الإيمان بالقدرة على بناء سرديةٍ جديدة عن العراق، تحترم تاريخه، وتفهم حاضره، وتؤمن بمستقبله.
اللواء الدكتور
سعد معن إبراهيم
رئيس خلية الإعلام الأمني