في عالمٍ تتصارع فيه الأخبار الزائفة والشاشات اللامعة والوعود المتناقضة يقف العلم وحيدًا في خندق الدفاع عن الحقيقة هذا ما يضعه بيتر دوهرتي الحائز على جائزة نوبل في الطب أمامنا بوضوح وشجاعة في كتابه “حروب المعرفة” الصادر عام 2015 والذي يُمكن اعتباره أكثر من مجرد كتاب علمي إنه بيان إنساني عميق يدافع عن جوهر المعرفة ويكشف كيف تُخاض اليوم معارك ناعمة لكنها مدمّرة ضد العلم ومصداقيته
يبدأ دوهرتي من الواقع الصلب حيث تقف جماعات الضغط الاقتصادية والسياسية سدًا منيعًا أمام نتائج الأبحاث العلمية خصوصًا عندما تهدد مصالحها الاقتصادية مثل قضية تغير المناخ أو سياسات الصحة العامة ويكشف أن المعركة لم تعد فقط على أرض المختبرات بل أصبحت تدور في الإعلام والتعليم ووسائل التواصل الاجتماعي وأن أكثر الأسلحة فتكًا لم تعد البنادق بل الأكاذيب التي تُقدَّم في اطار “الرأي الآخر”
ما يلفت في هذا العمل هو الروح التي كتب بها حيث لم يعتمد دوهرتي على لغة النخبة ولا لجأ إلى الغموض الأكاديمي بل خاطب القارئ العادي بلغة قريبة حميمية مشبعة بالقلق الإنساني والأمل في آن واحد إنه يثق بالقارئ ويعطيه أدوات لا لمواجهة الجهل فقط بل لمواجهة التضليل ذلك النوع الخبيث من المعرفة المزيفة التي لا تنشأ عن نقص في المعلومة بل عن صناعة متعمّدة للشك
يُذكّرنا الكتاب بأن التفكير النقدي ليس ترفًا فلسفيًا بل ضرورة حياتية وأن الإنسان المعاصر بحاجة إلى أن يتحوّل من مستهلك للمعلومة إلى فاحص لها باحث عن مصادرها مدرك لأهداف من يقف وراءها وفي هذا الإطار يعيد دوهرتي الاعتبار لدور التعليم والإعلام كحلفاء محتملين للعلم شرط أن يُعاد تأهيلهم ليكونوا خُدّامًا للحقيقة لا أبواقًا للمصالح
ربما أجمل ما في الكتاب أنه لا يُحمّل القارئ عبء العلم بل يمنحه امتياز المشاركة فيه دون أن يكون مختصًا كأنه يقول: لا تحتاج إلى شهادة دكتوراه لتفهم الخطر القادم فقط تحتاج إلى عقل يقظ وقلب مسؤول وهذا ما يجعل الكتاب وثيقة أخلاقية بقدر ما هو مرجع علمي
في زمنٍ باتت فيه الحقيقة “رأيًا” والعلم “وجهة نظر” يأتي كتاب “حروب المعرفة” ليعيد ترتيب الأولويات ويطالبنا بأن نقف مع المعرفة لا لأنها دائمًا على حق بل لأنها الطريق الأصدق للبحث عن الحق وإنقاذ مستقبلنا المشترك من العبث والجهل والتضليل المتعمّد
إنه كتاب لكل من يشعر بأن العالم ينهار بصمت ولكل من يطمح لأن يكون جزءًا من إنقاذه بالكلمة والسؤال والوعي
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي
رئيس خلية الاعلام الامني