حرية الرأي بين الاحترام والنقد الهدّام

هيئة التحرير16 مايو 2025آخر تحديث :
حرية الرأي بين الاحترام والنقد الهدّام

سمير السعد

في عالم يشهد يوميًا تدفقًا هائلًا من الم

علومات وتنوّعًا متزايدًا في الثقافات والآراء، باتت حرية التعبير إحدى أهم القيم التي يطمح إليها الأفراد وتحرص المجتمعات المتقدمة على ترسيخها. ولم تعد الآراء حكرًا على النخبة أو على وسائل الإعلام التقليدية، بل أصبحت من حق الجميع، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، أن يعبّروا عمّا يؤمنون به ويطرحوا وجهات نظرهم مهما كانت درجة اختلافها عن السائد أو المتعارف عليه.

إلا أن هذا الانفتاح، رغم إيجابياته الكثيرة، أفرز ظواهر سلبية تهدد جوهر حرية التعبير، حين يتحول بعض الأفراد إلى سماسرة إقصاء أو قضاة يصدرون أحكامًا على الآخرين لمجرد الاختلاف. نرى من يستهزئ بآراء الغير، ومن يمنع الناس من إبداء معتقداتهم أو ثقافتهم، ومن يفرط في انتقاد الآخرين بلا روية أو هدف واضح سوى التجريح والإحباط. فهل هذه ممارسات حضارية؟ وهل يعكس هذا التفاعل روح المسؤولية الاجتماعية؟ أم أننا أمام أزمة في فهم معنى الحرية وواجبات الاختلاف؟

من غير المنصف أن يُسفه أحدنا آراء غيره لمجرد أنها لا توافق قناعاته الشخصية أو خلفيته الثقافية. فالرأي، وإن خالف ما نعتقده، يظل نتاج تفكير وتجربة، ومن واجبنا احترامه ما دام لا يحمل إساءة أو تحريضًا. إن تسفيه الآراء لا يُظهر قوة موقف بل ضعف حجة، ويفتح بابًا واسعًا للتعصب والانغلاق.

الأمر لا يقتصر على مجرد رفض للرأي، بل يمتد أحيانًا إلى منع الآخر من الحديث أصلًا، تحت ذريعة أنه “لا يفهم”، أو “لا يحق له الحديث”، أو “ينتمي لفكر لا يُقبل”. وهنا تُولد بذور الاستبداد الفكري، ويُهدم مبدأ التعددية، وتُطفأ شموع الإبداع. فكل إنسان يحمل في داخله تجربة تستحق أن تُسمع، وفكرة قد تكون مدخلًا لنقاش مثمر أو حتى لتغيير حقيقي.

أما ظاهرة الإفراط في الانتقاد، فقد تحولت من وسيلة إصلاح إلى أداة تهديم. النقد البنّاء مطلوب ومحمود، لأنه يضيء الطريق أمام التطوير ويقوّي الحجة بالحجة. لكن حين يُصبح الانتقاد عادة تمارسها الألسن على الدوام، وتُطلق دون دراية أو مراعاة، فإنه يفقد قيمته ويُفسد العلاقات، بل ويثبط العزائم. والمشكلة ليست في التعبير عن الرأي، بل في نية النقد وطريقته ، هل هدفها البناء؟ أم الإحراج؟ هل تراعي مشاعر المتلقي؟ أم تستهدف كسره؟

نحن في حاجة إلى ثقافة تحترم الآخر لا تُقصيه، تُناقش الرأي لا تهاجمه، تُخالف الفكر دون أن تُسيء لحامله. الاختلاف لا يعني العداء، والتعدد لا يساوي الفوضى، بل هو دليل على غنى المجتمعات وحيويتها.

حرية الرأي مسؤولية، قبل أن تكون حقًا. ومن مسؤولياتها الكبرى أن نحترم الآخر كما نحب أن يُحترم رأينا، وأن ننتقد بنية الإصلاح لا الإهانة، وأن نمنح الجميع حق التعبير كما نطالب به لأنفسنا. فبالحوار الصادق، والتقدير المتبادل، والنقد الهادف، نرتقي معًا ونبني مجتمعًا أكثر نضجًا، يعلو فيه صوت الفكرة لا ضجيج الإقصاء.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل ...

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق