المشاركة تُصبح عبادة إذا قُصد بها الإصلاح، والمقاطعة تُصبح جهادًا سلميًا إذا قصد بها رفض الباطل.
بين الصمت والصوت :
المقاطعة والمشاركة… حقّان يتنازعان ضمير الأمة
أولاً: المدخل الدستوري – الحق في الاختيار أساس الشرعية:
في الفكر الدستوري الحديث، الانتخابات ليست مجرد آلية لتداول السلطة، بل هي عقد اجتماعي متجدد بين الشعب ومؤسساته.
وقد نص الدستور العراقي لعام 2005 في المادة (20) على أن:
“للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية، بما فيها حق الانتخاب والترشيح.”
وهذا النص يعني :
أن الانتخاب حق وليس واجباً، أي أن للمواطن الحرية في أن يشارك أو يقاطع، وكلا الفعلين تعبير عن موقف سياسي مشروع.
فالمشاركة تعني : الانخراط في صناعة القرار، بينما المقاطعة تعني : الاحتجاج الصامت أو رفض الشرعية القائمة.
وفي الحالتين، لا يجوز للدولة أو لأي جهة سياسية أن تُجبر المواطن على أحد الخيارين، لأن ذلك يخرق مبدأ السيادة الشعبية وحرية الإرادة السياسية.
ثانياً: الإطار القانوني – الحق لا يُفرَّغ من مضمونه:
من الزاوية القانونية، الحق في الانتخاب والمقاطعة هو جزء من الحقوق السياسية المدنية المكفولة بموجب:
• العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966)، الذي صادق عليه العراق سنة 1971، وينص في المادة (25) على حق كل مواطن في المشاركة في إدارة الشؤون العامة مباشرة أو بواسطة ممثلين منتخبين بحرية.
• وبذلك، فإن القانون الدولي يمنع أي تقييد أو ضغط على المواطن لإجباره على التصويت أو الامتناع.
كما أن قوانين الانتخابات العراقية لم تنص على عقوبة لعدم المشاركة، بل تركت الخيار مفتوحاً.
وهذا ما يكرّس مبدأ أن المقاطعة موقف قانوني صامت يُعبّر عن رفض واقع سياسي أو فقدان الثقة بالإجراءات الانتخابية.
لكن في المقابل، يرى فقهاء القانون الدستوري أن الامتناع الجماعي عن التصويت قد يؤدي إلى ضعف الشرعية التمثيلية للمجالس المنتخبة، مما يفتح الباب أمام الطعن في قوة التمثيل الشعبي.
ثالثاً: المنظور النفسي – بين الإحباط والرجاء:
من الزاوية النفسية، يتخذ السلوك الانتخابي بُعدين متضادين:
1. المشاركة تعبّر عن الأمل والإيمان بإمكانية الإصلاح من الداخل.
فهي فعل إيجابي نابع من الإحساس بالقدرة على التغيير، وغالباً ما يتبنّاه الأشخاص ذوو الإيمان بالعدالة الاجتماعية أو الانتماء الوطني العالي.
2. المقاطعة من جانب آخر قد تعبّر عن اليأس من جدوى العملية الانتخابية أو فقدان الثقة بالمؤسسات أو المرشحين، وأحياناً تكون رد فعل نفسي احتجاجي ضد التكرار والفشل المتراكم.
علم النفس السياسي يرى :
أن المقاطعة ليست دائماً سلبية، فهي نوع من الاحتجاج النفسي الجمعي الذي يهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والسلطة.
لكن استمرارها لفترات طويلة قد يؤدي إلى تفكك الانتماء الوطني، وشعور المواطن بأنه منفصل عن العملية السياسية برمتها، وهو ما يُضعف المناعة الديمقراطية للمجتمع.
رابعاً: الرؤية الشرعية – المشاركة مسؤولية والمقاطعة موقف:
في الرؤية الإسلامية، المشاركة في اختيار من يتولى أمر الناس تندرج تحت قاعدة:
“ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.”
فإذا كانت المشاركة تؤدي إلى تقليل الظلم، أو تعزيز الكفاءة، أو منع الفساد، فإنها تصبح واجباً شرعياً من باب تحقيق المصلحة العامة ودفع المفسدة.
أما إذا كانت الانتخابات وسيلة لتزوير الإرادة، أو لا تُفضي إلى عدالة، فإن الامتناع عنها يُعد موقفاً شرعياً مشروعاً احتجاجاً على الظلم.
قال الإمام علي عليه السلام:
“لا تكونوا إمّعة، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا.”
أي أن الموقف الشرعي يقوم على ميزان الضمير والنية، لا على الانقياد الأعمى.
فالمشاركة تصبح عبادة إذا قصد بها الإصلاح، والمقاطعة تصبح جهادًا سلميًا إذا قصد بها رفض الباطل.
خامساً: المستخلص الفكري والدستوري والنفسي – الوعي هو الخط الفاصل
المقاطعة ليست خيانة، كما أن المشاركة ليست طاعة عمياء.
كلاهما وجهان لحرية الإنسان في التعبير عن وعيه وموقفه.
فالمواطن الحر هو من يشارك بوعي أو يقاطع بوعي، لا من يُقاد بالشعارات أو يخضع للضغوط ، او يدعم مرشحين بعينهم لمصالح ضيقة ومكشوفة او تلميع صور بعض دون غيرهم على حساب شرفه وضميره وعقيدته لمصلحة مهنية وذاتية ومادية واضحة !!
الانتخابات ليست مجرد صناديق، بل مرايا تعكس نضج الشعوب وصدق الأنظمة.
والمجتمع الواعي هو الذي يعرف متى يُشارك لينقذ وطنه، ومتى يُقاطع ليقول: “كفى عبثاً.”
ختام المستخلص الدستوري والقانوني :
المشاركة والمقاطعة كلاهما حقّان دستوريان، مشروعان قانوناً، مفهومَان نفسيًا، ومعتبران شرعاً.
لكن الأهم هو أن يتحول كل منهما إلى فعل وطني مسؤول لا إلى نزعة انفعالية أو توظيف سياسي.
فالمجتمعات تنهض حين يكون الاختيار نابعاً من العقل والضمير، لا من الخوف أو الإحباط.
وبين المقاطعة والمشاركة، يبقى الوعي هو صندوق الاقتراع الأصدق والانبل .
سالم حواس الساعدي
مستشار قانوني وإعلامي
تخصص دقيق عمليات نفسية
جامعة بغداد