العراق المستدام

هيئة التحرير26 يوليو 2025آخر تحديث :
العراق المستدام

 

كتب رياض الفرطوسي

 

في العراق، حيث التاريخ يمشي إلى جوارك، والحاضر يتقاطع كل يوم مع أسئلة كبرى عن المصير والعدل والفرص، تبدو التنمية المستدامة أشبه بمحاولة جادة لاختبار إمكانية الخروج من الدائرة المفرغة: ثروات تُنفق، أزمات تتكرر، آمال تُبعث وتُخنق في الوقت نفسه. ليست التنمية المستدامة رفاهية نخب أو خطاب مناسبات، بل هي جوهر العقد الجديد الذي يحتاجه العراق إذا أراد أن ينتقل من بلد غني بموارده، إلى بلد غني بإدارته لهذه الموارد. لقد أنجزت الدولة العراقية خلال الأعوام الأخيرة جملة من التحديثات في رؤيتها التنموية، وكان أبرزها بلورة رؤية العراق للتنمية المستدامة 2030، وهي وثيقة مرجعية لا تكتفي بتوصيف التحديات، بل تطرح أهدافاً قابلة للقياس، تستند إلى المعايير الأممية، لكنها مشروطة بتفعيل قدراتنا الذاتية واستثمار الثروات الوطنية بعقل استراتيجي لا عاطفي.

 

وللمرة الأولى منذ زمن بعيد، تبدو ملامح الجدّية أوضح في بعض القرارات الرسمية، خاصة منذ تولّي حكومة السيد محمد شياع السوداني مهامها في نهاية عام 2022، حيث أظهرت ملامح خطتها التنموية ميلًا حقيقياً لربط السياسة بالاقتصاد، وربط كليهما بالعدالة الاجتماعية. وقد لا نكون أمام معجزة تتحقق، ولا أمام نموذج مثالي يُحتذى، لكن المؤشرات الأولية تُظهر تغييراً في النبرة والأسلوب والأولويات. فالتنمية المستدامة، التي طالما ظلت حبيسة المؤتمرات أو متاهة المصطلحات التقنية، بدأت تظهر في لغة الخطط الوزارية، وفي استحداث آليات للتمويل، وأطر جديدة للتخطيط بعيدة عن الارتجال أو الحلول المؤقتة.

 

إن التحدي الأكبر في العراق ليس قلة الإمكانات، بل سوء إدارتها عبر العقود. نحن نتحدث عن بلد يحتل مرتبة متقدمة عالميًا في احتياطي النفط، ويمتلك ثروات مائية وتعدينية وزراعية يمكنها – لو أُحسن استخدامها – أن تنقله من موقع الدولة الريعية إلى مصاف الدول المنتجة المتنوعة. لكن الموارد وحدها لا تبني وطناً. التنمية المستدامة تعني، قبل كل شيء، بناء الإنسان، حمايته من الفقر، وتحريره من الجهل، وتأمين البيئة الحاضنة لنموه الصحي والتعليمي والاجتماعي. ومن هنا، فإن أي سياسة حكومية لا تضع هذه الأبعاد في صلب أولوياتها، لن تؤدي إلا إلى إعادة إنتاج ما فشلنا في تجاوزه.

 

رؤية 2030 التي تعمل الدولة على تحقيقها، تتوزع على محاور ثلاثة: الاقتصادي، الاجتماعي، والبيئي. وفي المحور الاقتصادي، يتم التركيز على تنويع مصادر الدخل الوطني، وتقليل الاعتماد المفرط على إيرادات النفط. لهذا الغرض، بدأت الحكومة بدعم مشاريع استراتيجية مثل “صندوق العراق للتنمية”، الذي وُضع ليكون قناة مالية مرنة تستوعب استثمارات داخلية وخارجية وتوجّهها نحو البنى التحتية، والزراعة، والطاقة المتجددة، والتعليم، والمياه. وفي أقل من عامين، تم تحريك هذا الصندوق فعلياً بعد سنوات من الجمود، وأُدرجت فيه مشروعات تجاوزت قيمتها سبعة مليارات دولار، في مناطق مختلفة من العراق، بما في ذلك المحافظات المهمشة سابقًا.

 

أما على المستوى الاجتماعي، فإن الجهد الحكومي الحالي يحاول كسر الحلقة المفرغة للفقر عبر برامج دعم مباشر وغير مباشر، بالتزامن مع إعادة النظر في آليات الرعاية الاجتماعية، وتوسيع نطاق التعليم المجاني، وتطوير البنى التحتية الصحية. وقد أعلنت الحكومة صراحة عن نيتها الانتقال من نمط “الدعم الاستهلاكي” إلى نمط “الدعم التنموي”، أي من إطفاء الحرائق إلى وقاية المجتمع من مسبباتها. وهذا التوجه، إن كُتب له الاستمرار والمتابعة الدقيقة، يمكن أن يُحدث فارقاً حقيقياً في حياة الفئات الأكثر هشاشة.

 

غير أن البعد البيئي، وهو الأكثر تهميشاً في العقود السابقة، عاد ليتصدر واجهة الخطط الجديدة، وبدعم مباشر من الأمم المتحدة وجهات مانحة. وقد أُطلقت مؤخرًا “الاستراتيجية الوطنية لحماية البيئة 2024‑2030″، وهي خطة طموحة تشمل معالجة التلوث الهوائي والمائي، ومكافحة التصحر، وإدارة الموارد المائية، وتوسيع الغطاء النباتي، والانتقال التدريجي نحو الطاقة النظيفة. ومن المشاريع الرمزية التي بدأت في هذا السياق: إطلاق حملة تشجير ضخمة تهدف إلى زراعة خمسة ملايين شجرة بحلول عام 2027، مع التركيز على المدن الجنوبية والوسطى الأكثر تأثراً بالتغير المناخي.

 

ومع أن التحديات ما تزال جسيمة، إلا أن مجرد طرح هذه القضايا ضمن أجندة الدولة هو أمر مستجد يستحق التوقف. فقبل سنوات قليلة فقط، لم تكن مفاهيم مثل “البيئة”، و”التنمية المستدامة”، و”العدالة بين الأجيال”، تلقى أي صدى في خطاب الدولة. أما اليوم، فقد أصبحت جزءاً من مفردات الخطط الحكومية، حتى وإن كانت البداية لا تزال متواضعة.

 

لكننا لا نخدع أنفسنا. فما بين الخطة والتنفيذ مسافة شاسعة، والمسافة بين الرؤية والواقع قد تطول ما لم يتم سدّها بالإرادة السياسية والرقابة المجتمعية والمهنية العالية. ما زالت البيروقراطية تُبطئ الكثير من البرامج، وما زالت بعض العقليات القديمة تقاوم التغيير، وبعض الجهات المحلية تنظر إلى التنمية بوصفها مكسباً مؤقتاً لا استحقاقاً طويل الأمد. ومع ذلك، فإن النقلة النوعية لا تتطلب الكمال، بل الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح.

 

المهم، في هذه اللحظة المفصلية، أن يتم التفكير في المواطن لا كمجرد رقم في الإحصاءات، بل كمرتكز لكل عملية بناء. التنمية الحقيقية لا تتحقق إن لم ترتفع مداخيل الأفراد، وإن لم تتحسن مدارسهم، وإن لم يشعروا بالأمان في شوارعهم، والنظافة في بيئتهم، والكفاءة في الخدمات التي تقدمها لهم الدولة. إن كل فلسفة التنمية المستدامة تقوم على مبدأ بسيط: أن تكون الموارد الحالية في خدمة الأجيال القادمة، دون أن يُحرَم الجيل الحاضر من حقه في العيش الكريم. وهذه المعادلة تتطلب توازناً دقيقاً بين الاستثمار والإصلاح، بين النمو الاقتصادي والحماية الاجتماعية، بين التوسع العمراني والحفاظ على البيئة.

 

لقد أثبتت تجارب دول الجوار – التي عانت في أزمنة قريبة من ظروف مشابهة – أن من يضع التنمية المستدامة في صلب رؤيته الوطنية يستطيع أن يُحدث قفزات حقيقية. الإمارات، السعودية، قطر، حتى الأردن، كلها تحولت من بلدان ريعية إلى بلدان ذات قطاعات اقتصادية متطورة، عبر ربط النفط بالصناعة، والسياحة بالتعليم، والطاقة بالتكنولوجيا. لم يكن الأمر سحراً، بل تخطيطاً وإرادة ووضوحاً في الهدف. أما نحن في العراق، فإن كل عناصر النجاح متوفرة: ثروات طبيعية هائلة، موقع استراتيجي فريد، قاعدة بشرية واسعة من الشباب، تاريخ حضاري ملهم. ما ينقصنا، أو ما كان ينقصنا، هو الإرادة السياسية والتنفيذ الجاد.

 

واليوم، ربما تكون هذه الإرادة قد بدأت بالتشكل. فالحكومة الحالية، رغم كل ما يحيط بها من تعقيدات، تحاول أن تضع قدماً في المستقبل، دون أن تغفل عن واقع الحاضر، وهذا بحد ذاته تطور. لكن هذه المحاولة تحتاج إلى دعم لا بالتصفيق، بل بالمراقبة، بالمحاسبة، بالنقد المسؤول، وبالضغط الإيجابي من قِبَل الإعلام، والنخب، والمجتمع المدني، لتستمر وتُصحح وتتعزز. فليس المطلوب أن تكون الدولة مثالية، بل أن تكون قادرة على التعلم والتحسن والاستجابة.

 

إن التنمية المستدامة ليست مشروعاً حكومياً مؤقتاً، بل خيار وطني طويل الأمد، يتجاوز الحكومات والدورات الانتخابية، ويؤسس لثقافة جديدة في فهم الدولة وموقع المواطن داخلها. إنها جسر بين ما نحن عليه وما يجب أن نكون عليه. وكل تأخير في بناء هذا الجسر، لا يُفقدنا سنوات فقط، بل يُهدر حق أجيال كاملة لم تولد بعد، لكنها ستحاسبنا ذات يوم على ما أهدرناه أو ما حفظناه.

 

ولهذا، لا خيار أمام العراق إلا أن يسير بثقة – لا بغرور – نحو مستقبله. مستقبل لا تُقاس فيه التنمية بعدد الأبراج أو حجم الإنفاق، بل بمقدار العدالة، ومستوى التعليم، ونظافة الهواء، وأمان الماء، وكرامة الإنسان.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل ...

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق