كتب محمد السيد محسن
في جلسة ود اخوية أهداني الدكتور حسنين معلة رئيس مجلس الادارة في نادي الصيد , أهداني كتابا كتبه الدكتور نزار بن السيد باقر السيد أحمد الحسني اطال الله في عمره والذي كان بعنوان ” ذكريات من مسيرة الحكم الوطني الملكي في العراق” . وأول ما لفت انتباهي هو استخدام مصطلح “الوطني” كرديف لمصطلح الملكي على اعتبار ان الثقافة العراقية السائدة تستخدم مصطلح الوطني قبالة الحكم الملكي.
تلك كانت نقطة يفترض ان اقف عندها لحاجة عند المؤلف.يستعرض الكتاب لمحات من سيرة جغرافية لمناطق العراق , معززا بشواهد تاريخية لم يطلع عليها الكثير من العراقيين .في هذا المقال اود ان اركز على مدينة الكاظمية لتي افرد لها المؤلف فصلا خاصا بها , استعرض تاريخها المسكوت عنه.
في سرده لتأريخ منطقة الكاظمية , أستنتج -كقارئ- ان المناطق في العراق كانت لها خصوصية محلية وكان هذه الخصوصية قادرة على تنفيذ ما يود المحليون التابعون لتلك المنطقة أن ينجزوه لمناطقتهم حصرا.فتاتيك المعلومة التي لم اكن اعرفها انا , ان سوق الاسترابادي مثلا والذي اسسه عبد الهادي الاستر ابادي وجعل السقف من الجينكو , حرص عبد الهادي على تأسيس فتحات للتهوية تبدأ من باب القبلة وتنتهي بمحطة الكاري ” كاري الكاظم” وكذلك نتعرف على ان مناطق معينة من الكاظمية كانت ملجأ للأفغان المقيمين في العراق , حيث خان “الكابولي” والذي كان نزلا للزائرين وفي عام 1904 تحول الى خستخانة اي مستشفى عسكري , وفي عام 1921 اتخذ مقرا لفوج الامام موسى الكاظم ,أول تشكيلات الجيش العراقي , ثم هدم الخان واستخدم دار استراحة ” نقاهت خانة” ثم لاحقا مرابا لحافلات نقل زائري الكاظمية.يعتقد السيد الحسني ان افتتاح معمل “فتاح باشا” عام 1926 من قبل اللواء سلمان فتاح باشا , كان بمثابة فتح اقتصادي شجع الكثر من اهالي بغداد للاستثمار في مجالات شتى مثل معمل الدبس لصاحبه الدكتور يوسف عبود , في محلة الانباريين , ومعامل الجلود والدباغة ومشاغل الحياكة ومعامل الطحين والكاشي والفخار والطابوق , وشجع هذا الفتح العظيم في الكاظمية حتى أن الوصي عبد الاله ساهم بنسبة بسيطة , يقول عنها الحسني انها ما زالت قائمة , في معمل للأنسجة القطنية في محلة النواب , الامر الذي دفع عامة التاس لتعريف معمل الغزل بمعمل الوصي , رغم ان نسبته كانت ضئيلة جدا.
وفي استعراضه لمدارس الكاظمية يقول السيد الحسني : تأسست في العهد التركي مدرسة الشرافة الإيرانية عام 1909 ومدرسة الاميرية بجوار سراي الحكومة عام 1911 .وفي الحكم الوطني ويقصد به الحكم الملكي للعراق , تأسست 4 مدارس احداها وأهمها كانت مدرسة الأنباريين , وكان فيها مدرستان الاولى للذكور والاخرى كانت للابتدائية للبنات وتديرها السيدة نجاة عسيران زوجة هاشم علاوي والد رئيس الوزراء الاسبق اياد علاوي, وكانت تتحرك على الاهالي لتشجيعهم لانخراط بناتهم في المدرسة.
بعد هذه المقدمة الوصفية التي أوردها السيد باقر الحسني حول مدينة الكاظمية , نستنتج الشفافية في نقل التأريخ , دون انحياز فئوي أو قومي أو طائفي , وهذا ما أود التركيز عليه في المقال , الكاظمية منطقة لا تختلف عن غيرها من المناطق في العراق , بيد أنها كانت مادة للشهادة العينية لرجل عبر الثمانين , واستغرق في العلاقات الاجتماعية والمجتمعية بينه وبين المهتمين وأصحاب القرار.
الحسني لم يهمل في تناوله التاريخي والجغرافي لمنطقة الكاظمية حتى صغائر الامور من قبيل الشارع الاول في الكاظمية والحمام الاول والمقهى الاولى , ووصف الحياة الاجتماعية , قبل المذياع وبعدها , وقبل فتح الاذاعة العراقية وبعدها.يتحدث الحسني عن “دكة البريد” وهي حادثة أدت الى استشهاد بعض من أهالي الكاظمية الذين اعترضوا على تحويل مقبرة الكاظمية الاثرية الى دائرة للبريد في ايام رئيس الوزراء ياسين الهاشمي.
كما ان الحسني المؤلف لم يترك الفرصة ليخلد اسماء سكان بسطاء من الكاظمية , من قبيل عبدعلي الكاظمي صاحب مكتبة النجاح في شارع المرتضى , وعبد النبي الدهوي صاحب علوة الحبوب , والاخرى لصاحبها علي الراعي , هؤلاء لم يتخيلوا أن يخلدهم التأريخ , وأنهم سيتم تخليد ذكراهم كجزء من تأريخ منطقة الكاظمية رغم بساطة الدور التاريخي الي قاموا فيه , سواء هم او الرجال الذين انجبتهم المنطقة في مجالات عدة منها السياسة او الثقافة او الدين وما غيرها من المجالات التي وثقها السيد الحسني بشكل يعتمد على الانسيابية في الطرح , تدفع القارئ لاكمال “الحدوثة” التاريخية بمحتواها الجغرافي.
لقد تعامل السيد الحسني مع تاريخ الكاظمية بمنتهى الشفافية حيث لم يهمل “المطهرجي” والطبيب بعد حين, فضلا عن الرسامين والفنانين والبقالين والحلاقين والرياضيين واصحاب الحسينيات وميادين الادب وبيوتات النخب والصالونات الثقافية , انها فعلا قدرة متميزة لترتيب المعلومات وتقديمها في اطار جغرافي وتاريخي يجذب القارئ.وفي النهاية استوقفني السيد الحسني في توثيقه لبيوتات الكاظمية ورجالاتها ومكان اقامتهم , وتتبع تلك الاماكن وما اصبحت , فمنها من تحول الى مشاريع جديدة ومنها من اندثر ليصبح عينا من بعد اثر, لكن الفضل للسيد الحسني ليثبت للتاريخ ما كان وما اصبح في تلك المناطق.انا في الحقيقة أمام تجربة ثرية للتوثيق , وطريقة جذابة للتعرف على الاماكن والجغرافية والتحولات الزمنية للمكان
