حين تقع بين يديك صفحات كتاب الإنسان العاري تشعر أنك لا تقرأ مجرد عمل في نقد التقنية بل تفتح بابًا لفهم التحوّل الجذري الذي طال علاقة الإنسان بذاته في زمن الرقمنة. الكاتبان مارك دوغان وكريستوف لابي لا يقدمان عرضًا تقنيًا لمخاطر الإنترنت بل يذهبان أعمق نحو كشف بنية جديدة للسلطة تمارس هيمنتها على الإنسان المعاصر دون أن تلوّح بسلاح أو تفرض أمرا
الكتاب مكتوب بلغة المفكرين لا بلغة المبرمجين إذ لا يركّز على آليات الذكاء الاصطناعي قدر ما يركّز على ما تفعله هذه الآليات بعقولنا وسلوكنا وحريتنا. إنه بحث في سؤال فلسفي وإنساني عميق كيف أصبح الإنسان قابلا للقراءة قابلا للتوجيه قابلا لأن يُعاد تشكيله دون أن يُنتزع منه شيء بالقوة
في هذا النص يتجلّى مفهوم جديد للرقابة لا يشبه ما قرأناه في كتب التاريخ السياسي الرقابة هنا لا تُمارس من سلطة عليا بل من خوارزميات تتعلّم وتُقنع وتُغري. الإنسان الحديث لا يُجبر بل يُقترح عليه لا يُراقب بعين الدولة فقط بل بعين التطبيق الذي يرافقه في جيبه طوال اليوم
ما يميّز هذا الكتاب أنه يسلّط الضوء على ظاهرة نعيشها دون أن نملك مفاتيح تفسيرها كيف تحوّلت كل تفاصيلنا اليومية إلى بيانات كيف صار كل تفاعل رقمي جزءا من اقتصاد جديد يقوم لا على بيع المنتجات بل على استثمار السلوك ذاته. نحن لا ندفع مالًا بل نُمنَح خدمات مجانية لكننا بالمقابل نُنتج مادة خام لأضخم صناعة رقمية في التاريخ
أمام هذا الواقع يظهر الإنسان العاري كما وصفه العنوان بلا جدران تحمي خصوصيته بلا قوانين تضمن سيادته على ذاته بلا وعي حقيقي بحجم الانكشاف الذي يعيشه. الأخطر أن هذا الانكشاف لا يفرض عليه بل يطلبه بل يهرع إليه في شكل إعجاب وتعليق ومشاركة
الكاتبان لا يقدّمان خطابًا سوداويًا بقدر ما يقدّمان صدمة معرفية ضرورية لكل من يتعامل مع التكنولوجيا بوصفها أداة بريئة. هما لا يهاجمان الرقمنة بل يحذّران من طغيانها حين تنفصل عن المساءلة وتُترك لتهندس الوعي وتشكّل الرأي وتعيد صياغة الحاجات والمواقف وحتى الانفعالات
من يقرأ هذا الكتاب يدرك أن الصراع اليوم لم يعد بين الإنسان والدولة أو بين الفرد والجماعة بل بين الإنسان والخوارزمية التي باتت تعرفه أكثر مما يعرف نفسه. وهنا يكمن التحدي أن يستعيد الإنسان حقه في أن يسأل قبل أن ينقر أن يتوقف قبل أن يشارك أن يختار بوعي لا بانفعال
الإنسان العاري ليس مجرّد عنوان بل مرآة لحقيقتنا الرقمية لقد خلعنا طبقات الحماية التي كانت تصون إنسانيتنا وأهملنا أسئلة الهوية والحرية والاستقلال مقابل سرعة في الوصول وتدفق في المعلومات ومتعة فورية في التواصل
هذا الكتاب موجّه لكل قارئ لا يريد أن يكون مجرد رقم في منظومة ضخمة بل يريد أن يفهم ويعي ويقرر. إنه ليس كتابًا تقنيًا ولا تنظيريًا بل عمل فكري يمسّ وجدان الإنسان المعاصر ويضعه أمام مسؤولية كبرى أن يختار وعيه وأن يسترد حريته من خلف الشاشة
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي
رئيس خلية الإعلام الأمني