الأمن لا يُصنع بالنار

هيئة التحرير1 يوليو 2025آخر تحديث :
الأمن لا يُصنع بالنار

 

 

كتب رياض الفرطوسي

 

في عالمٍ باتت فيه الأقمار الصناعية ترصد أدق الحركات، والطائرات المسيّرة تحلّق فوق المدن كما تحوم الكوابيس فوق أسطح البيوت، لا يزال الإنسان يفتش عن أمنه بين الركام، ويبحث عن معنى للحياة وسط صخب الصواريخ وضجيج الجنازات. لقد بالغت الدول الكبرى في تكديس الأسلحة، وظنّ صانعو القرار أن ترسانة الصواريخ يمكن أن تكتب للناس طمأنينتهم، وأن بوارج البحر قادرة على إرساء السلم فوق اليابسة. لكن التاريخ وحده، لا يملّ من تكرار دروسه: لا يُصنع الأمن من فوهة البندقية، ولا تنبت الحياة في أرض تُحرث بالقنابل.

 

حين اندلعت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وإيران، ظنّ كثير من المراقبين أن الأمر لا يعدو كونه سجالًا سياسياً ضيقاً بين دولتين تتنازعان النفوذ في الإقليم. غير أن الحقيقة التي تكشّفت سريعاً، أنّ خلف الستار تقف منظومة كاملة تحيك خيوط الصراع، بتحالفات تمتد عبر البحار والعواصم. فما إن تصاعدت المواجهة، حتى دخلت الولايات المتحدة على خط الأزمة، موجِّهة ضربات للمفاعل النووي الإيراني، لتصبح الحرب محاولة متجددة لإعادة رسم خرائط المنطقة بأدوات النار، لا بلغة الحوار أو الحق. لقد بدت وكأنها إدارة للمواجهة بعقلية تقاسم النفوذ، لا بمنطق العدالة.

 

ما حدث لم يكن سوى فصل جديد من دراما عالمية تعاني من اختلال عميق في الموازين. إذ تكالبت قوى الغرب على استهداف بلدٍ محاصرٍ منذ عقود، بينما ظلّت دولٌ كثيرة تتفرّج أو تتواطأ بصمتٍ يحاكي الخذلان. وبينما كانت الطائرات الحربية تحلّق في سماء الصراع، ظلّ الجوع يفتك في غزة، وظلّ الأطفال هناك يتعلمون أن الهدوء لحظة نادرة في حياة محاصرة. أي عدالة تلك التي تسمح بقتل من يهرعون لصفوف المساعدات؟ وأي أمن يُبنى على دماء من جاعوا حتى الموت؟

 

المؤلم في كل ذلك ليس فقط الحروب نفسها، بل تواطؤ الصمت العالمي معها. إن أكثر ما يفتك بالحق ليس الكذب، بل التغاضي. أن يمرّ يومٌ جديد من القتل الجماعي دون أن تهتز ضمائر العالم، فتلك علامة خطيرة على أن مشاعر الإنسانية باتت متأخرة عن ركب التكنولوجيا، وأن القيم تنهار أمام شاشات الأخبار كما تنهار الأبراج في لحظة قصف.

 

لقد بلغت التقنية حدوداً مذهلة، يمكن معها تعقّب حشرة في الفضاء، لكنّ العالم ما يزال عاجزاً عن حماية طفل في خيمة، أو إطعام أمٍ تنوح على أبنائها. تطورت الطائرات إلى سرعة تفوق الصوت، لكنّ الصوت الوحيد الذي لم يُسمع بعد هو صوت العدل.

 

أما في العواصم التي تدّعي الحرية، فالكيل بمكيالين أصبح سلوكاً مؤسساتياً. يُحاسَب الضعيف على كل هفوة، ويُغضّ الطرف عن جرائم الكبار. يُفَتَّش في جيوب الشعوب عن ذرائع للعقوبات، فيما تُغَطَّى ملفات القتل الجماعي بشماعة “الدفاع عن النفس”. حتى الجياع، لم يسلموا من قصفٍ لا يفرّق بين فمٍ مفتوح للغذاء وآخر مفتوح للصراخ.

 

والأخطر من السلاح، هو الإصرار على تبريره. أن يتحول الدم إلى جزء من خطاب القوة، وأن تُقنِع آلة الدعاية العالم أن السلم لا يتحقق إلا بالإذعان للقوة، وأن العدالة ليست إلا بنداً مؤجلًا إلى حين انتهاء القصف. ما هذا العالم الذي يقنع نفسه أن الأمن سلعة تحتكرها الجيوش، وأن الطمأنينة لا تأتي إلا من قبضة غليظة؟

 

لقد أثبتت التجارب أن الشعوب تنهض من تحت الرماد. لا القنابل أوقفت إرادتهم، ولا الحصار أخمد أحلامهم. فالذين تذوقوا طعم الذلّ لا يعودون إليه طوعاً، والذين عاشوا بين الحصار والقصف تعلّموا كيف ينسجون حياتهم من شظايا الصبر والمقاومة. يكفي أن ننظر إلى اليابان التي أُحرقت بالقنابل النووية، لتصير لاحقاً قوة اقتصادية تفرض احترامها بصمت. ويكفي أن نقرأ سطور التاريخ لنعرف أن القهر لا يصنع الأمن، بل يدفع نحو المزيد من الغضب والانفجار.

 

أمن العالم لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالتفاهم، بالاحترام المتبادل، بالإصغاء لأصوات الجوعى، وبإغاثة الضحايا بدل قتلهم. لن تُثمر الطائرات المسيّرة محاصيل من الثقة، ولن تعيد المدمرات الحربية إعمار الضمائر المهدّمة. لا شيء يعوّض أمًّا عن ابنها الذي استُشهد على بوابة مركز غذائي. ولا قوة في الأرض تستطيع أن تُقنع شعوباً مكلومة بأن القاتل هو المنقذ.

 

إنه عالم فقد بوصلته الأخلاقية، فصار يركض خلف “الواقعية السياسية” دون أن ينتبه أن هذه الواقعية تحوّلت إلى سيفٍ مسلول على رقاب الفقراء، وأن الأمن صار امتيازاً لقلة، وعقوبة لبقيّة البشرية. ليس الأمن ترفاً بل حق، ولا السلام هبة بل واجب. ومن يظن أن بمقدوره إدارة العالم بالصواريخ وحدها، فليقرأ كيف سقطت إمبراطوريات كانت تظن أنها خالدة.

 

العالم بحاجة إلى صوت آخر، لا يشبه صدى البارود، بل يشبه همس الأمومة، وحنين اليتامى، ونداء الضعفاء الذين ما عادوا يحتملون النسيان. عالم لا يُدار من غرف العمليات، بل من ساحات الحوار، من منصات العدالة، من محافل تُنصت لآلام الناس وتُعيد للضمير الإنساني وظيفته المعلّقة.

 

وحتى يحدث ذلك، سيبقى السؤال معلّقاً: من يحمي هذا الكوكب من غرور قوّته؟ ومن يجرؤ على أن يقول إن الأمن لا يُصنع بالنار؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

عاجل ...

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق